فصل: (فرع: تأخر الوكيل برد ما وكل به)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: تأخر الوكيل برد ما وكل به]

إذا طالب الموكل برد ما بيده.. وجب عليه رده عليه على حسب إمكانه، فإن أخر الرد.. نظرت:
فإن كان لعذر.. لم يصر بذلك ضامنا.. قال أبو إسحاق: والعذر: مثل أن يكون قد خرج ليصلي صلاة الجماعة، فأخر ليفرغ من الصلاة، أو كان يبيع ويشتري في السوق، فقال حتى أرجع إلى البيت، أو كان مريضا، فقال: لا أحب أن يتولى إخراجها غيري، لأني قد أحرزتها، أو كان محبوسا، فقال: حتى أخلى أو كان في الحمام، أو يأكل الخبز، فقال حتى أفرغ، أو كان في وقت نومه، أو كان يحفظ مالا لا يخشى ضياعه، أو ملازما لغريم له، لأنه غير مفرط بذلك. قال: وكذلك إذا طالبه به، فقال: هو في الصندوق، وقد ضاع المفتاح.. فإنه لا يجبر على كسر القفل، بل يؤخر حتى يجد المفتاح، أو يصلح غيره؛ لأنه غير مفرط.
وإن أخر الرد لغير عذر، أو أخره لعذر ولكن زال العذر ولم يشتغل بالرد.. ضمن؛ لأنه مفرط بذلك، وإذا طالبه بالرد، فمنعه من غير عذر.. ضمنها، سواء تلف قبل أن يمضي زمان إمكان الرد، أو لم يمض؛ لأنه صار ضامنا بالمنع من غير عذر فإن ادعى الوكيل أنه قد كان تلف قبل المطالبة برده، أو قال: كنت رددته.. لم يقبل قوله؛ لأنه صار مكذبا لنفسه ضامنا في الظاهر، فإن أقام على ذلك بينه.. فهل تسمع؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسمع، كما لو صدقه الموكل على ذلك.
والثاني: لا تسمع، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه قوله يكذب بينته، ويخالف إذا صدقه الموكل؛ لأنه يقر ببراءته، فلم يستحق مطالبته.
وأما إذا طالبه برده، فأمتنع الوكيل من رده، وعنده أن الشيء باق، ثم بان أنه كان تالفا.. فهل يلزمه الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الضمان؛ لأنه لما منعه.. تبينا أنه كان ممسكا له على نفسه.
والثاني: لا ضمان عليه؛ وهو الأصح؛ لأن التعدي وجد بعد التلف.

.[فرع: استخدام الوكيل ما وكل به]

وإذا دفع إليه ثوبا ليبيعه، فلبسه الوكيل، أو دفع إليه دابة ليبيعها، فركبها. صار ضامنا بذلك، وهل تبطل وكالته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل وكالته، فلا يصح بيعه؛ لأنه عقد أمانة، فبطل بالخيانة كالوديعة.
والثاني: لا تبطل وكالته، فيصح بيعه؛ لأن الوكالة تضمنت الأمانة والتصرف، فإذا بطلت الأمانة بالخيانة.. بقي التصرف، كالرهن يقتضي الوثيقة والأمانة، فإذا تعدى في الرهن. بطلت الأمانة، وبقيت الوثيقة، وتخالف الوديعة، فإنها مجرد أمانة لا غير.
فإذا قلنا بهذا، وباع الوكيل.. فمتى يبرأ من الضمان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: ويقول عامة أصحابنا -: أنه لا يبرأ إلا بتسليم المبيع إلى المشتري.. لأنه لو تلف في يده قبل التسليم إلى المشتري، لانفسخ البيع وعاد إلى ملك الموكل، فكان مضمونا عليه.
والثاني: وهو قول القاضي أبي الطيب -: أن بنفس البيع يزول عنه الضمان؛ لأنه صار ملكا للمشتري، فإذا قبض الثمن.. صار أمانة في يده؛ لأنه قبضه بإذن الموكل. ولم يوجد منه التعدي فيه.
فإن وجد المشتري بالبيع عيبا، فرده على الوكيل.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه يعود مضمونا عليه؛ لأن المشتري ما قبضه للموكل، وإنما قبضه لنفسه، فزال الضمان بذلك، فإذا فسخ العقد.. انفسخ القبض، وعاد الضمان كما كان.

.[فرع: ضمان الوكيل بالتعدي]

فإن دفع إليه دراهم، ووكله ليشتري له بعينها سلعة، فتعدى الوكيل فيها.. صار ضامنا لها، فإن اشتراها بها بعد ذلك للموكل.. فهل يصح؟ على الوجهين في المسألة قبلها، فإذا قلنا: يصح.. فمتى يزول عنه ضمانها؟ على الوجهين.
وإن أمره يشتري بثمن في الذمة وينقد الثمن منها، فتعدي الوكيل فيها بأن ترك حفظها، ثم اشترى بعد ذلك في الذمة للموكل.. صح الشراء له، وجها واحدا؛ لأنه لم يتعد فيما تناوله العقد، فإذا نقد الدراهم.. برئ من ضمانها.
وإن استقرض الوكيل الدراهم، وأتلفها.. بطلت وكالته، وجها واحدا؛ لأنه إن كان قد أمره أن يشتري بعينه.. فقد تعذر ذلك بتلفها، فجرى مجرى من وكل في بيع عبد فمات، وإن كان أمره أن يشتري في الذمة وينقد الثمن منها.. فإنه إنما أمره بالتصرف في تلك الدراهم، فإذا تلتفت.. لم يملك الشراء.

.[فرع: تلف الثمن في يد الوكيل من غير تفريط]

وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها، فباعها، وقبض ثمنها، وتلف في يده من غير تفريط، واستحق المبيع.. رجع المشتري بالعهدة على الموكل دون الوكيل.
وقال أبو حنيفة: (يرجع بالعهدة على الوكيل).
دليلنا: أن البيع للموكل، فكانت العهدة عليه، كما لو باع بنفسه، ولأن الوكيل نائب في العقد، فلا يرجع بالعهدة عليه، كالولي، والحاكم، وأمين الحاكم.

.[مسألة: القول قول الموكل]

إذا أدعى رجل على آخر أنه وكله في تصرف، وأنكر الموكل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الوكالة.
وإن قال: وكلتني أن أبيع لك الجارية، فقال: بل وكلتك أن تبيع لي العبد.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها.
وإن وكل رجلا في بيع عين، فباعها الوكيل بثمن إلى أجل، فقال الموكل: إنما أذنت لك في بيعها بثمن حال، أو ببيع مطلق، فإن صدقه الوكيل والمشتري على ذلك.. حكم ببطلان البيع، فإن كانت العين قائمة.. أخذها الموكل، فإن كانت العين في يد المشتري.. كان له أن يطالب بردها من شاء منهما؛ وإن كانت العين قد تلفت في يد المشتري.. رجع الموكل ببدلها على من شاء منهما؛ لأن الوكيل دفع ما لم يكن له دفعه، والمشتري قبض ما لم يكن له قبضه، فإن رجع على الوكيل.. كان للوكيل أن يرجع على المشتري، وإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل في يد المشتري، فاستقر الضمان عليه.
وإن كذباه، وقالا: إنما أذنت ببيعها إلى أجل.. فالقول قول الموكل مع يمينه؛ لأنه لما كان القول قوله في أصل الوكالة.. كان القول قوله في صفتها، فإذا حلف، وكانت السلعة قائمة.. أخذها، وإن تلفت في يد المشتري.. رجع بقيمتها على من شاء منهما، فإن رجع على المشتري.. لم يرجع المشتري على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده.
قال ابن الصباغ: إلا أن يكون الوكيل قد قبض منه الثمن، فيرجع به عليه؛ لأنه لم يسلم له المبيع.
وإن رجع على الوكيل. قال ابن الصباغ: لم يرجع الوكيل على المشتري في الحال بشيء؛ لأنه يقر: أنه ظلمه بالرجوع عليه، فإذا حصل الأجل.. كان للوكيل أن يرجع عليه بأقل الأمرين من القيمة، أو الثمن المسمى؛ لأن القيمة إن كانت أقل.. فإن الوكيل يقر له بجميع الثمن، ولا يدعي عليه إلا القيمة، وإن كان الثمن أقل.. لم يرجع على المشتري بأكثر منه؛ لأنه يدعي أن الموكل ظلمه بأخذ الزيادة.
وإن صدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فإن أراد الرجوع على المصدق.. رجع عليه بغير يمين، وإن أراد أن يرجع على المكذب.. لم يرجع عليه حتى يحلف، فيرجع عليه، كما هو الحال في تكذيبهما.

.[فرع: لا يقبل قول الوكيل على الموكل]

وإن اتفقا على الوكالة، واختلفا في التصرف، فادعى الوكيل أنه قد باع العين التي وكل في بيعها، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم تبعها. أو قال الوكيل: قد بعت، وقبضت الثمن، وتلف الثمن في يدي، وادعاه المشتري، وقال الموكل: لم يقبضه.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يقبل قول الوكيل على موكله، بل القول قول الموكل؛ لأن الوكيل يقر بحق موكله، فلم يقبل، كما لو أقر بدين عليه، أو أبرأه من حق.
والثاني: يقبل إقرار الوكيل، وبه قال أبو حنيفة، واختاره القاضي أبو الطيب؛ لأنه يملك البيع والقبض، فقبل إقراره فيه، كما يقبل إقرار أبي البكر بنكاحها، إلا أن أبا حنيفة ناقض في مسألة، وقال: (إذا وكله أن يتزوج له امرأة، فأقر الوكيل: أنه تزوجها له، وادعت المرأة ذلك، وأنكر الموكل. لم يقبل قول الوكيل؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على النكاح؛ لأنه لا يعقد حتى يحضر شاهدين).
فإذا قلنا: يقبل قول الوكيل، فأقر بقبض الثمن من المشتري، وأنه تلف في يده، وحلف الوكيل، ثم خرج المبيع مستحقا، فرجع المشتري على الوكيل بالثمن.. قال أبو العباس: لم يكن للوكيل أن يرجع على موكله؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يستحق الرجوع عليه بقوله ويمينه، فهو كما لو باع شيئا، ثم اختلفا في عيبه، فحلف البائع، فلو وجد به عيبا قديما، فرده به.. فليس للبائع أن يطالبه بأرش العيب الذي حلف على حدوثه في يد المشتري، بل يكون القول قول المشتري.
قال ابن الصباغ: وفي رجوع الوكيل على موكله في هذه نظر؛ لأنه يثبت بيمينه قبضه للثمن وتلفه، فأما الرجوع: فإنما يثبت له بسبب آخر، وهو أنه نائب عنه في البيع وهذا كما نقول في النسب: إنه لا يثبت بشهادة النساء، وإذا أثبتن الولادة في الفراش.. ثبت النسب.

.[فرع: اختلاف قول الموكل والوكيل]

وإن وكله أن يشتري له عبدا بثمن معين، أو بثمن في الذمة، فاشتراه، ثم قال الوكيل: اشتريته بألف، وصدقه البائع، وقال الموكل: بل اشتريته بخمسمائة. ولا بينة. قال ابن الصباغ: فهي على القولين. ولم يذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق"، والمحاملي إلا: أن القول قول الموكل.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الشراء في الذمة.. فالقول قول الموكل، وإن كان الشراء بعين مال الموكل.. فالقول قول الوكيل؛ لأن الثمن إذا كان في الذمة.. كان الموكل غارما، والقول قول الغارم، وإذا كان الثمن معينا.. فإن الغارم هو الوكيل؛ لأنه يريد المطالبة برد ما زاد على خمسمائة).
دليلنا: أنه يملك الشراء، فملك الإقرار بكيفيته، كالأب في تزويج ابنته البكر، وما ذكروه من الفرق.. فغير صحيح؛ لأن في الموضعين الغرم على الموكل.

.[فرع: ثبوت قول الوكيل مع البينة]

إذا وكله أن يشتري له جارية، فاشتراها الوكيل بعشرين، ثم اختلفا، فقال الوكيل: أمرتني أن اشتريها لك بعشرين، وقد اشتريتها لك بذلك. وقال الموكل: بل أمرتك أن تشتريها لي بعشرة، فاشتريتها بعشرين فلا يلزمني الشراء، فإن كان مع الوكيل بينة أنه أذن له بذلك، فأقامها.. حكم له بذلك، ولزم الموكل الثمن، وإن لم يكن مع الوكيل بينة. فالقول قول الموكل مع يمينه: أنه ما أمره أن يشتري له إلا بعشرة؛ لأنهما لو اختلفا في أصل إذنه.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفة إذنه.
فإذا حلف الموكل.. برئ من الابتياع، وتبقى الخصومة بين الوكيل والبائع، فإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بعين مال الموكل، وذكر في العقد: أنه يبتاع لموكله بعين ماله.. حكم بفساد البيع؛ لأن الموكل لم يثبت إذنه بذلك، وإن لم يذكر في العقد أنه ابتاع لموكله بعين ماله، إلا أن البائع صدقه على ذلك.. حكم بفساد البيع؛ لما ذكرناه.
وإن كذبه البائع، فقال ما اشتريتها لغيرك بعين ماله، وإنما اشتريتها لنفسك بمالك.. حكم للبائع؛ لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، ويحلف البائع: أنه لا يعلم أنه اشتراها لغيره بمال موكله؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره، فإذا حلف.. مضى البيع، وغرم الوكيل لموكله ما دفع من ماله.
وإن كان الوكيل قد اشترى الجارية بثمن في الذمة، فإن لم يذكر في العقد: أنه يشتريها للموكل.. لزم الشراء على الوكيل؛ لأنه اشترى لغيره في الذمة ما لم يأذن له فيه، وإن ذكر الوكيل في الشراء: أنه يشتريها لموكله، فإن اعترف البائع أنها للموكل.. كان الشراء باطلا، وإن قال البائع: ذكرت أنك تبتاع للموكل في العقد، ولكن ما ابتعتها إلا لنفسك.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الشراء للوكيل.
والثاني: لا يصح وقد مضى ذكرهما. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق" وقال المحاملي: إذا اشترى في الذمة، وذكر أنه يشتريها للموكل: فعلى الوجهين، سواء صدقه البائع على ذلك أو كذبه.
فكل موضع قلنا: البيع باطل.. فلا تفريع عليه، وكل موضع قلنا: البيع فيه صحيح.. فإن الجارية تكون ملكا للوكيل، وهل يملكها ظاهرا وباطنا، أو في الظاهر دون الباطن؟ ينظر فيه:
فإن كان الوكيل كاذبا في إذن الموكل له في ابتياعها بعشرين.. فإنه يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأن البيع وقع له.
وإن كان الوكيل صادقا في أن الموكل أذن له في ابتياعها بعشرين.. فإن الوكيل يملكها في الظاهر، وفي الباطن هي ملك للموكل، فلا يحل له وطؤها؛ لأنها ملك غيره.
قال المزني، والشافعي: (يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل، ويقول له: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين.. فبعه إياها بعشرين، فإذا قبل الوكيل.. حل له وطؤها). فإن قال الموكل للوكيل: بعتك هذه الجارية بعشرين، أو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. ملكها ظاهرا وباطنا، وإن قال الموكل: إن كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين.. فقد بعتكها بعشرين وأو وليتكها بعشرين، فقال الوكيل: قبلت.. فهل يملكها في الباطن؟ فيه وجهان:
أحدهما من أصحابنا من قال: لا يملكها بذلك في الباطن؛ لأنه بيع معلق على شرط، فلم يصح، كما قال: إذا جاء رأس الشهر.. فقد بعتكها بعشرين.
قال: والمزني إنما حكى كلام الحاكم لا كلام الموكل.
والثاني: منهم من قال: يصح ويملكها في الباطن بذلك؛ لأنه شرط يقتضيه الإيجاب؛ لأنه لا يصح أن يبيعه إلا إن كان قد أذن له، وكل أمر يعلمان وقوعه.. فلا يضر شرطه، كما لو اتفقا أن هذا الشيء ملكه، فقال: إن كان هذا ملكي.. فقد بعتكه، فيصح.
قال ابن الصباغ: وعندي أن الموكل لا يقال له: قل: قد بعتكها مطلقا؛ لأنه يؤدي إلى تكذيب قوله، والإقرار منه بالملك، فإن لم يفعل الموكل ذلك.. لم يجبر على ذلك؛ لأنه قد ثبتت بيمينه براءته.
فعلى هذا: ما يصح أن يصنع الوكيل بالجارية؟ فيه وجهان.
أحدهما: يملكها ظاهرا وباطنا؛ لأنا قد حكمنا بفسخ العقد في حكم الموكل، فكانت ملكا للوكيل، كما لو باع رجل جارية من غيره، فأفلس المشتري بالثمن، وحجر عليه، فرجع البائع إلى جاريته.
فعلى هذا: يحل له وطؤها، واستخدامها، وبيعها، وهبتها من غيره.
والثاني: لا يملكها في الباطن، ويكون كمن له على غيره حق، فامتنع من أدائه، ووجد شيئا من ماله من غير جنس حقه؛ لأن الوكيل يقر: أنه لم يملكها.
فعلى هذا: لا يحل له وطؤها، ولا استخدامها، ولا هبتها من غيره، ولكن يباع منها بقدر ما دفع من الثمن، ومن الذي يتولى بيعها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما إن شاء الله.
فإن كان ثمنها قدر حقه.. أخذه، وإن كان أقل.. كان له أن يستوفي الباقي من مال الموكل، وإن كان أكثر من حقه. أخذ قدر حقه، وأمسك الباقي للموكل في يده إلى أن يدعيه.

.[مسألة: تلف العين بيد الوكيل يثبته البينة أو اليمين]

وإن ادعى الوكيل أن العين التي في يده لموكله تلفت من غير تفريط، وأنكر الموكل تلفها، فإن ادعى تلفها بسبب ظاهر.. لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإذا أقام البينة على السبب الظاهر، أو ادعى تلفها بسبب خفي.. فالقول قوله مع يمينه: أنها تلفت؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على تلفها. فقبل قوله في ذلك.

.[فرع: إنكار الموكل رد العين]

وإن ادعى الوكيل أنه رد العين إلى موكله، وأنكر ذلك الموكل، فإن كانت الوكالة بغير جعل.. فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه قبض العين لمنفعة مالكها، فقبل قوله في ردها، كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل، بأن يقول: وكلتك ببيع هذه السلعة، ولك الجعل درهم، فإذا باعها.. استحق الدرهم، فإن اختلفا في رد العين، أو رد ثمنها إلى الموكل، فادعاه الوكيل، وأنكره الموكل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل قول الوكيل؛ لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في ردها، كالمرتهن، والمستعير.
الثاني: يقبل قول الوكيل مع يمينه؛ لأنه لا منفعة له في العين، وإنما منفعته بالجعل.

.[مسألة: يطلب الإشهاد]

إذا كان لرجل عند رجل حق، فطالبه به، فقال من عليه الحق: لا أسلمه إليك حتى تشهد على نفسك بالقبض.. فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: ينظر في ذلك:
فإن كان من عنده الحق يقبل قوله في الرد، كالوكيل بغير جعل، والمودع أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: يقبل قولهم في الرد.. لم يكن له أن يمتنع لأجل الإشهاد؛ لأنه لا ضرر عليهم أن لا يشهد صاحب الحق؛ لأن قولهم مقبول في الرد، فإذا امتنعوا من الرد.. ضمنوا.
وإن كان من عنده الحق لا يقبل قوله في الرد، كالمرتهن، والمستعير، والغاصب أو الوكيل بجعل، والمقارض، والأجير المشترك، إذا قلنا: لا يقبل قولهم في الرد، فإن كان لا بينة لصاحب الحق عليهم.. لم يكن لهم الامتناع لأجل الإشهاد؛ لأنه يمكنه أن يحلف: أنه لا يستحقه عليه، وإن كان لصاحب الحق به بينة.. كان لهم الامتناع من التسليم إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه؛ لأنه لا يؤمن أن يطالبه بحقه بعد أخذه له، يقيم البينة، ولا يقبل قوله في الرد، فيلزمه غرمه.
وقال أبو على بن أبي هريرة: له أن يمتنع من الرد إلى أن يشهد صاحب الحق بقبضه في جميع هذه المسائل كلها؛ لأن له غرضا في ذلك، وهو سقوط اليمين عنه، وعادة الأمناء التحرز من الأيمان.
قال ابن الصباغ: وهذا لا بأس به عندي إذا كان الإشهاد ممكنا لا يؤدي إلى تأخير الحق فأما إذا أدى إلى تأخير الحق لتعذر الإشهاد.. فعلى التفصيل الذي مضى. وبالله التوفيق للصواب

.[كتاب الوديعة]

الوديعة، مشتقة من السكون، فكأنها ساكنة عند المودع، مستقرة، وقيل: إنها مشتقة من الدعة، فكأنها في دعة عند المودع.
والأصل في الوديعة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283].
وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكتاب مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فدل على: أن للأمانة أصلا في الشرع.
وأما السنة: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»، أي: لا تقابله بخيانة.
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه».
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عنده ودائع بمكة، فلما أراد أن يهاجر.. تركها عند أم أيمن، وخلف عليا ليردها على أهلها».
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جواز الإيداع.
إذا ثبت هذا: فالناس في قبول الودائع على ثلاثة أضرب:
ضرب يعلم من نفسه القدرة على حفظها، ويأمن من نفسه الخيانة فيها، ولا يخاف التلف عليها إن لم يقبلها، فهذا يستحب له قبولها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. ولا يجب عليه قبولها؛ لأنه لا ضرورة به تدعو إلى ذلك.
وضرب يجب عليه قبولها، وهو أن يأتي رجل بمال ليودعه في مكان عند رجل، وليس هناك من يصلح لحفظها إلا هو، وهو يعلم أنه إن لم يقبل ذلك منه.. هلك المال، فيجب عليه القبول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمة مال المؤمن كحرمة دمه». فلو خاف على دمه، وقدر على الدفع عنه.. لوجب عليه ذلك، وكذلك ماله، فإن لم يقبلها.. أثم؛ لما ذكرناه، ولا يضمن المال إن تلف؛ لأنه لم يوجد منه تعد، فهو كما لو قدر على الدفع عن نفس غيره، ولم يدفع عنه حتى قتل.
وضرب يكره له القبول، وهو من يعلم من حال نفسه العجز عن حفظ الوديعة، أو لا يأمن من نفسه الخيانة فيها؛ لأنه يغرر بمال غيره، ويعرض نفسه للضمان، فإن قبلها.. لم يجب عليه الضمان إلا بالتعدي.

.[مسألة: أهلية المودع]

ولا يصح الإيداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه صبي أو سفيه مالا.. لم يجز له قبول ذلك منه؛ لأنه لا يملك حفظ المال بنفسه، فلا يملك أن يملك ذلك غيره، فإن أخذه منه.. ضمنه، ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى الناظر في ماله؛ لأن قبضه
كان غير جائز، فكان مضمونا عليه، فإن خاف المودع إن لم يقبل ذلك منه تلف، أو أتلفه الصبي، أو السفيه، فأخذه بِنِيَّةِ أن يسلمه إلى الناظر في أملاكه، فتلف في يد القابض قبل رده إلى الولي من غير تفريط.. فهل يجب عليه الضمان؟ فيه وجهان مأخوذان من القولين في المحرم إذا خلص صيدا من سبع، فهلك في يده.

.[مسألة: كفاءة المودع]

ولا يصح الإيداع إلا عند جائز التصرف في المال، فإن أودع صبيا، أو مجنونا.. لم يصح؛ لأنهما ليسا من أهل حفظ الأموال، فإن تلفت الوديعة عندهما من غير تفريط.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنه إذا لم يجب الضمان في هذه الحالة على من صح الإيداع عنده.. فلأن لا يجب على من لم يصح الإيداع عنده أولى.
وإن تلفت الوديعة عندهما بتفريط منهما في حفظها، ولم يباشرا إتلافها.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما لم يلزمهما حفظها، فيلزمهما الضمان عند التفريط، وإن أتلفاها بأنفسهما.. فهل يجب عليهما الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليهما الضمان؛ لأن مالكها مكنهما من إتلافها، فهو كما لو باعهما مالا، أو أقرضهما وأقبضهما إياه، فأتلفاه.
والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه لم يسلطهما على الإتلاف، وإنما أمرهما بالحفظ.